الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس «أن السلام في السلام اسم من أسماء الله تعالى» وهذا يقتضي أولوية التعريف أيضًا فافهم، والأفضل في الرد واو قبله، ويجزئ بدونه على الصحيح، ويضر في الابتداء كالاقتصار في أحدهما على أحد جزئي الجملة، وإن نوى إضمار الآخر، وفي الكشف ما يؤيده، والخبر الذي فيه الاكتفاء بو عليك في الجواب لا يراد منه الاكتفاء على هذه اللفظة، بل المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم أجاب بمثل ما سلم به عليه، ولم يزد كما يشعر به آخره، وذكر الطحاوي أن المستحب الرد على طهارة أو تيمم، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي الجهم قال: «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد على الرجل السلام» والظاهر عدم الفرق بين الرد والابتداء في ذلك، ويسن السلام عينًا للواحد وكفاية للجماعة كما أشرنا إليه ابتداءًا عند إقباله وانصرافه للخبر الصحيح الحسن: «إن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم السلام»، وفارق الرد بأن الإيحاش والإخافة في ترك الرد أعظم منهما في ترك الابتداء، وأفتى غير واحد بأن الابتداء أفضل كإبراء المعسر أفضل من إنظاره ويؤخذ من قولهم: ابتداءًا أنه لو أتى به بعد تكلم لم يعتد به، نعم يحتمل في تكلم سهوًا أو جهلًا، وعذر به أنه لا يفوت الابتداء فيجب جوابه، ومثل ذلك بل أولى لمشروعيته الكلام للاستئذان، فقد صرحوا بأنه إذا أتى دار إنسان يجب أن يستأذن قبل السلام، ويسن إظهار البشر عنده، فقد أخرج البيهقي عن الحسن قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه» وعن عمر «إذا التقى المؤمنان فسلم كل واحد منهما على الآخر وتصافحا كان أحبهما إلى الله تعالى أحسنهما بشرًا لصاحبه» ويسن عليكم في الواحد، وإن جاء في بعض الآثار بالإفراد نظرًا لمن معه من الملائكة، ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم، ولو دخل بيتًا ولم ير أحدًا يقول: السلام علينا وعلى عباد الله تعالى الصالحين، فإن السكنة تردّ عليه، وفي «الآكام» إن في كل بيت سكنة من الجن، ويسن عند التلاقي سلام صغير على كبير، وماش على واقف أو مضطجع، وراكب عليهم، وراكب فرس على راكب حمار، وقليلين على كثيرين لأن نحو الماشي يخاف من نحو الراكب، ولزيادة نحو مرتبة الكبير على نحو الصغير، وخرج بالتلاقي الجالس والواقف والمضطجع، فكل من ورد على أحدهم يسلم عليه مطلقًا ولو سلم كل على الآخر فإن ترتبا كان الثاني جوابًا أي ما لم يقصد به الابتداء وحده كما قيل وإلا لزم كلا الرد، وكره أصحابنا السلام في مواضع، وفي «النهر» عن صدر الدين الغزي:
فلو سلم على هؤلاء لا يستحق الرد عند بعضهم، وأوجب بعض الرد في بعضها وذكر الشافعية أن مستمع الخطيب يجب عليه الرد، وعندنا يحرم الرد كسائر الكلام بلا فرق بين قريب وبعيد على الأصح، وكرهوه لقاضي الحاجة ونحوه كالمجامع، وسنوه للآكل كسن السلام عليه بعد البلع وقبل وضع اللقمة بالفم ويلزمه الرد حينئذٍ ولمن بالحمام ونحوهما باللفظ.ورجحوا أنه يسلم على من بمسلخه ولا يمنع كونه مأوى الشياطين فالسوق كذلك والسلام على من فيه مشروع، وإن اشتغل بمساومة ومعاملة ومصل ومؤذن بالإشارة، وإلا فبعد الفراغ إن قرب الفصل، وحرموا الرد على من سلم عليه نحو مرتد وحربي، وندبه بعضهم على القارئ وإن اشتغل بالتدبر، وأوجب الرد عليه، ومحله في متدبر لم يستغرق التدبر قلبه وإلا لم يسن ابتداءًا، ولا جواب كالداعي المستغرق لأنه الآن بمنزلة غير المميز، بل ينبغي فيمن استغرقه الهم كذلك أن يكون حكمه ذلك، وصرحوا أيضًا بعدم السلام على فاسق بل يسن تركه على مجاهر بفسقه، ومرتكب ذنب عظيم لم يتب عنه، ومبتدع إلا لعذر أو خوف مفسدة، وعلى ملب وساجد وناعس ومتخاصمين بين يدي قاض، وأفتى بعضهم بكراهة حني الظهر، وقال كثيرون: حرام للحديث الحسن أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وعن التزام الغير وتقبيله، وأمر بمصافحته ما لم يكن ذميًا، وإلا فيكره للمسلم مصافحته بل يكفر إن قصد التبجيل كما يكفر بالسلام عليه كذلك.وأفتى البعض أيضًا بكراهة الانحناء بالرأس وتقبيل نحو الرأس أو يد أو رجل لاسيما لنحو غني لحديث: «من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه» وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبّل يد عمر رضي الله تعالى عنهما، ولا يعدّ نحو صبحك الله تعالى بالخير، أو قواك الله تعالى تحية ولا يستحق مبتدأ به جوابًا، والدعاء له بنظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ونحو مرحبًا مثل ذلك في ذلك، وذكر أنه لو قال المسلم السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال الراد: عليك السلام فقط أجزأه لكنه خلاف الأولى، وظاهر الآية خلافه إذ الأمر فيها دائر بين الجواب بالأحسن والجواب بالمثل، وليس ما ذكر شيئًا منهما، وحمل التحية على السلام هو ما ذهب إليه الأكثرون من المحققين وأئمة الدين، وقيل: المراد بها الهدية والعطية، وأوجب القائل العوض أو الرد على المتهب وهو قول قديم للشافعي ونسب أيضًا لإمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، وعلل ذلك بعضهم بأن السلام قد وقع فلا يرد بعينه فلذا حمل على الهدية وقد جاء إطلاقها عليها، وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبي: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عيينة أنه قال في الآية: أترون هذا في السلام وحده هذا في كل شيء من أحسن إليك فأحسن إليه وكافِه، فإن لم تجد فادع له واثن عليه عند إخوانه، ولعل مراده رحمه الله تعالى قياس غير السلام من أنواع الإحسان عليه لأن المراد من التحية ما يعم السلام وغيره لخفاء ذلك، ولعل من أراد الأعم فسرها بما يسدى إلى الشخص مما تطيب به حياته {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَئ حَسِيبًا} فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم؛ ويدخل في ذلك ما أمروا به من التحية دخولًا أوليًا. اهـ. .من فوائد الخطيب الشربيني في الآية: قال رحمه الله:{وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} التحية هي دعاء الحياة، ولكن جمهور المفسرين على أن ذلك في السلام أي: إذا سلم عليكم مسلم فأجيبوه بأحسن مما سلم فإذا قال: السلام عليكم، فيزيد الرادّ: ورحمة الله، فإذا قال: ورحمة الله، فيزيد الرادّ: وبركاته {أو ردّوها} أي: بأن تردّ عليه بمثل ما سلم.روي أنّ رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك فقال: «وعليك السلام ورحمة الله» وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله فقال: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال: وعليك أي: السلام ورحمة الله وبركاته فقال الرجل: نقصتني أي: الفضل على سلامي، فأين ما قال الله أي: من الفضل؟ وتلا الآية فقال: «لم تترك لي فضلًا فرددت عليك مثله» لأنّ ذلك هو النهاية لاستجماعه أقسام المطالب وهي السلامة من المضار وحصول المنافع وثبوتها، وظاهر الآية إنه لو رد عليه بأقل مما سلم عليه به إنه لا يكفي، وظاهر كلام الفقهاء إنه يكفي، وتحمل الآية على أنه الأكمل وابتداء السلام على المسلم سنة عين من المنفرد وكفاية من الجماعة، وردّه فرض عين إذا كان المسلم عليه واحدًا، وكفاية من الجماعة، ويشترط في الردّ الفور، والجوب مستفاد من الأمر، والفور من الفاء، وأمّا كونه كفاية فلخبر أبي داود «يجزئ عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم» والراد منهم هو المختص بالثواب ويسقط الحرج عن الباقين، وإن أجابوا كلهم كانوا مؤدّين للفرض سواء أكانوا مجتمعين أم متفرّقين كصلاة الجنازة، ولا يسقط الفرض بردّ الصبيّ المميز.فإن قيل: قد سقط به فرض الصلاة عن الجنازة، أجيب: بأن المقصود من الصلاة الدعاء والصبيّ أقرب إلى الإجابة والمقصود من السلام الأمان والصبيّ ليس من أهله، ولا يسقط أيضًا بردّ من لم يسمع، ولو سلم على امرأة إن كان يباح له النظر إليها كمحرمة وزوجته يسنّ له السلام عليها، ووجب عليها الردّ وإلا كره له ابتداء وردًّا وحرم عليها ابتداء وردّ هذا إذا كانت مشتهاة، فإن كانت عجوزًا أو جماعة نسوة لم يكره، ويجب الردّ لانتفاء خوف الفتنة، ولا يسنّ ابتداؤه على قاضي حاجة ولا على آكل ولا على من في حمام ولا على مصلّ ومؤذن وخطيب وملب ومستغرق القلب بالدعاء، ولا يجب الجواب عليهم، ويحرم ابتداؤه على الكافر، ويرد عليه إذا سلم بعليك فقط، وهذا باب طويل قد بينته السنة وقد أكثرت منه في شرح المنهاج {إنّ الله كان} أي: أزلًا وأبدًا {على كل شيء حسيبًا} أي: محاسبًا فيجازي عليه، وقال مجاهد: حفيظًا، وقال أبو عبيدة: كافيًا، يقال: حسبي هذا أي: كفاني. اهـ..من فوائد الجصاص في الآية: قال رحمه الله:قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: التَّحِيَّةُ الْمِلْكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَسِيرُ بِهِ إلَى النُّعْمَانِ حَتَّى أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِ يَعْنِي: عَلَى مُلْكِهِ.وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «حَيَّاك اللَّهُ» أَيْ «مَلَّكَك اللَّهُ».وَيُسَمَّى السَّلَامُ تَحِيَّةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ حَيَّاك اللَّهُ فَأُبْدِلُوا مِنْهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِالسَّلَامِ وَأُقِيمَ مَقَامَ قَوْلِهِمْ حَيَّاك اللَّهُ.قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كُنْت أَوَّلَ مَنْ حَيَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ فَقُلْت: السَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ.وَقَالَ النَّابِغَةُ: يُحَيُّونَ بِالرَّيْحَانِ يَوْمَ السَّبَاسِبِ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُعْطُونَ الرَّيْحَانَ.وَيُقَالُ لَهُمْ «حَيَّاكُمْ اللَّهُ» وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَلَّكَك اللَّهُ؛ فَإِذَا حَمَلْنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} عَلَى حَقِيقَتِهِ أَفَادَ أَنَّ مَنْ مَلَّكَ غَيْرَهُ شَيْئًا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ مَا لَمْ يَثِبْ مِنْهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِيمَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِيهَا مَا لَمْ يَثِبْ مِنْهَا، فَإِذَا أُثِيبَ مِنْهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ رَدٍّ لِمَا جِيءَ بِهِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمَهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَسْتَرِدُّ مَا وَهَبَ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ قَيْأَهُ، فَإِذَا اسْتَرَدَّ الْوَاهِبُ فَلْيُوَقَّفْ وَلْيُعَرَّفْ بِمَا اسْتَرَدَّ ثُمَّ لِيُدْفَعْ إلَيْهِ مَا وَهَبَ».وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مَجْمَعٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا».وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُعْطِي عَطِيَّةً أَوْ يَهَبُ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا. إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ» وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَالْآخَرِ: كَرَاهَتُهُ وَأَنَّهُ مِنْ لُؤْمِ الْأَخْلَاقِ وَدَنَاءَتِهَا فِي الْعَادَاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الرَّاجِعَ فِي الْهِبَةِ بِالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ.
|